صحراء نيوز - الدكتورة نعيمة المدني
منذ كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية لدوركايم وكتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فييبر لم يعرف الفكر الاجتماعي إصدار كتب مؤثرة في رصد الظاهرة الدينية، لذلك أعتبر كتاب الدكتور عبد الله بوصوف حول الدين والمشترك الانساني من أهم الكتب التي عرفها العصر الحديث حول الدين كظاهرة انسانية.
لقد استغرق الخطاب السوسيولوجيوالأنتربولوجي حول الدين تاريخا طويلا في فهم الظاهرة الدينية ، بمعنى الفهم والتفسير العلمي للظاهرة الدينية دون الالتفات إلى الفهم الاجتماعي للظاهرة الدينية ، ولاشك أن التمثلات الاجتماعية حول الدينو ليس الدين في حد ذاته هو ما سبب في وجود ظواهر مثل التطرف مقدمة نفسها باسم الدين في حين هي مرتبطة بالتدين وليس الدين ، مرتبطة بالبنيات الذهنية التي تتمحور حول الدين ، هذه البنيات التي تنقسم، حسب الأبحاث التي انصبت عليها، إلى بنى مركزية تعتبر من الثوابت و بنى هامشية قابلة للتغيير و التعديل.
لقد سببت الظواهر السلبية المرتبطة بالتدين في صياغة تاريخ دموي اختلط فيه على المفكرين تاريخ الدين بتاريخ التدين، ولعل الوضع الشائك كان يحتاج إلى إجابة تاريخية من مفكركبير مثل الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج ، حيث استقى من التاريخ صورا وأحداثا تاريخية تساهم في تصحيح الصورة التي أصبح يشوبها الكثير من الأفكار الخاطئة التي تربط الدين وخصوصا الاسلام بالارهاب و التشدد.
وقد أكد الدكتور بوصوف غيرما مرة أن الارهاب هو ظاهرة اجماعية وليس دينية صرفة وقدم دلائل من خلال عدة أمثلة لأشخاص ارتكبوا مجازر إرهابية دون أن يكون الدين هو دافعهم إليها، وقد لقيت أفكاره تلك اهتماما كبيرا داخل المغرب وخارجه نظرا لاعتباره من المفكرين المرموقين حول الظاهرة الدينية في العالم العربي والإسلامي قاطبة.
لقد تعدى خطاب الدكتور بوصوف مرحلة التشخيص ، تشخيص بيت الداء في السلوك الديني إلى مرحلة تقديم الحلول من خلال جرعة فكرية على قدر كبير من النبل والروعة .
أبدع الدكتور بوصوف في إعادة صياغة مفاهيم انسانية كادت تفقد معناها في العصر الحديث، حيث قام بإعادتها إلى سياقها الديني الأول ، باعتبار أن الدين وخاصة الدين الاسلامي يعتبر اللبنة الأساسية التي تتحقق بها التنشئة الاجتماعية.
حيث نجح الأستاذ في رصد ثنائيات متعارضة برع الاسلام في تعويض بعضها ببعض ، حيث دعا إلى التعايش عوض التصادم، التسامح عوض التعصب، التعارف لا النكران، التفاعل عوض التقاتل من خلال العديد من الايات القرآنية والأحاديث الشريفة.
لقد أكد الدكتور بوصوف على بناء الاسلام لمفهوم جديد للتعايش القائم على الشمولية ، حيث لم يقتصر على المعنى المباشر للتعايش من خلال اليومي، بل تعداه ليشمل نواحي عديدة اقتصادية، سياسية وغيرها، كما استدل من أجل ذلك بالعديد من الايات والأحاديث التي تؤكد بعد الشمولية في الدين الاسلامي، فالشمولية في الاسلام تعني الاحتواء والتضمين وشمولية الاسلام تعني اشتمال رسالته لكل ما يحتاجه الانسان، وقد تمكن الدكتور بوصوف من إغناء مفهوم الشمولية في الاسلام من خلال إسقاطها على موضوع التعايش ، بحيث بين كيف أن الاسلام أرسى قواعد التعايش مع الاخر في جميع المجالات دون أن يقتصر الأمر على التعامل اليومي.
قدم الدكتور بوصوف أيضا تدقيقا لمصطلح العدل في الاسلام والذي وضعه كأساس للاستخلاف في الأرض ، ولعل الباحث هنا يؤكد ما جاء به ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع و علم العمران البشري عندما نص أن العدل هو أساس العمران، بمعنى أن العدل هو اساس قيام المجتمعات الانسانية وبقاءها وبدونه فهي معرضة للخراب، وقد أثارني أن الأستاذ بوصوف طبق مفهوم العدل على السلوك الانساني من خلال التأكيد على الاعتدال في التصرفات الانسانية.
كما قام الدكتور بوصوف بإعادة تعريف العديد من المصطلحات التي قد يعتقد المرء أنها تحمل معان مباشرة في حين أنها مرتبطة بمصطلحات أخرى و لا يكتمل معناها إلا بها ، فالتقوى في الاسلام لا تكتمل إلا بالعدل والعدل لا يكتمل إلا بحسن التعامل مع الآخر، بهذا دم الدكتور بوصوف إضافة جديدة إلى تحديد المفاهيم كلحظة علمية ملقيا الضوء على بعض المفاهيم العنقودية في الاسلام والتي يرتبط بعضها ببعض ويحيل بعضها على بعض .
بلغة رفيعة المستوى، قام الدكتور بوصوف بإعادة قراءة تاريخ الاسلام من خلال التركيز على مجموعة من اللحظات التاريخية التي سجلت دروسا في التعايش والتسامح من قبل المسلمين، مقدما الصورة الحقيقية للدين الاسلامي مقابل السيمولاكر ( النسخة المشوهة) التي صيغت بفعل تمثلات خاطئة وإعلام مغرض.
لقد نفض الدكتور بوصوف الغبار عن إحدى نفائس تاريخ التسامح في العالم الاسلامي، يتعلق الأمر بالرسالة القبرصية الشهيرة التي أرسلها ابن تيمية إلى ملك قبرص، والتي تعكس حقيقة فكر ابن تيمية كفكر قائم على حوار الأديان، فضلا عن إدراجه لشخصية تاريخية تعتبر نموذجا يحتدى في احترام الدين كمشترك إنساني إنه صلاح الدين الأيوبي الذي عرف بحسن تعامله مع أهل الذمة الدين اانتصر عليهم في فتح القدس الشريف .
ولعل تناول الدكتور بوصوف لمثل هذه الشخصيات لمن يكن اعتباطيا بل كان نتيجة أبحاث علمية عديدة قام بها كمتخصص في تاريخ الأديان، من أجل انتقاء الأمثلة التي تصلح أن تؤثث النواة المركزية التي تكون التمثلات الاجتماعية حول الدين ، مدعما هذه الأمثلة بأخرى عديدة من الدولة الأموية، العباسية والعثمانية، فضلا عن تقديم المغرب كنموذج يحتذى في التسامح من خلال ما تحضى به الطائفة اليهودية المغربية من وضع اعتباري جعلها تعيش دائما وعبر التاريخ، في ظروف يطبعها التسامح والتعايش بينها وبين المسلمين.
لقد خلف مؤلف الدكتوربوصوف أثرا طيبا داخل المغرب وخارجة، حيث تعالت أصوات مطالبة بترجمته إلى لغات عديدة،و قد ثمن مبادرته الانسانية والفكرية تلك بتنظيم قافلة للتسامح والتعايش لصالح الشباب في الأحياء الهامشية.
* أستاذة علم الاجتماع والانتربولوجيا بجامعة القاضي عياض بمراكش