يمكن جدا لهذه المنتجات المادية، بل وهذا يحدث، أن تغير من عادات الناس التي هي وجه من تجليات الروح، يوما ما كانت خطابات الغرام ورقية مثلا، والآن انتهى ذلك وصارت الرسائل بالموبايل.. السينما كانت مشوارا حميميا تجلس فيه بين الناس كأنكم تحتفلون بالفيلم. الآن يمكن أن تشاهد الفيلم وحدك في غرفتك، بوسائل التواصل الحديثة.
جلسات العائلة كانت حميمية يلتف فيها الأفراد حول الأب والأم ويتحدثون، الآن إذا جلسوا صار كل منهم مشغولا بمتابعة الموبايل في يده.. ماديا اللقاءات موجودة، روحيا هناك فصام، لكن تجليات الروح أيضا يمكن أن تكون سابقة لتجليات العقل. التأمل في الكون أتي بالمعتقدات، التي قد تكون فكرية مثل معنى الوجود، عبثا أو جادا، وأتى بالفن والإبداع الذي هو في أغلبه ملاذ أجمل، مما حول المبدع أو الفنان. في الفنون التي تتغير أشكالها مع الزمن، وتجد من يضع لها الأسباب التي دعت إلى التغيير، لا يوجد غصب، لم يفرض الفنانون مذهبا بالقوة على أحد، لا منهم ولا من المشاهدين.
من بينهم من وضع الإجابات عن سؤال لماذا كانت الرومانتيكية مثلا لتحتل مكان الكلاسيكية؟ ولماذا كانت الواقعية ولماذا كانت الواقعية الاشتراكية؟ ولماذا كانت في الفن الانطباعية؟ ولماذا كانت التكعيبية أو السيريالية أو التجريد، إلى آخر ما تريد من مذاهب أدبية وفنية؟ لكن لا أحد استعان بالسلطة لفرضها. هي سلطة التذوق والتلقي تساعد على البقاء والانتشار.
وحين حدث مرة في الاتحاد السوفييتي أن صارت الواقعية الاشتراكية هي المعترف بها من الدولة، لم يبقَ إلا من تمردوا. لماذا لا يمكن فرض ذلك؟ لأنها تجليات الروح يتغير الإنسان معها أو بها، ويحتاج دائما وقتا لتمثلها.
في التغيرات المادية يسرع الإنسان إليها.. الهاتف المحمول بدلا من تليفون المنزل.. الإنترنت بدلا من التلغرافات والبريد.. الصواريخ بدلا من المدافع. يمكن فرض ذلك كله أو بعضه، فلا يمكن تصور جيش الآن يحمل السيوف والرماح مثلا.
التعامل مع المنجزات المادية يحتاج إلى علم وتعليم، كل الآلات مهما صغرت تحتاج إلى معرفة، لكن يظل السلوك والعادات بين البشر ضمن التطور الطبيعي للمجتمعات، التي تحتاج إلى وقت لتتغير ولا تتم بالغصب، بل قد تتم دون أن يدرك الناس ذلك. من هنا تأتي كارثة النظم السياسية الشمولية، أو الديكتاتورية بمعني أوضح، تفرض على الناس أفكارا كما تفرض مخترعات واكتشافات وهناك فارق. تحدد للناس طريقة التعامل والعلاقات وحتى الهتافات والتحايا.
لن أعطي أمثلة من العالم مثل ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي فهي لا تهمني. سأعطي أمثلة من حياتنا، من مصر قبل غيرها.
"منذ السادات تغير رجال السلطة ومن حولهم وافتقد الكثيرون هذه الروح العالمية، فصارت مصر في عاداتها القديمة بلد الكفار، وفي عاداتها الجديدة بلد الإسلام، فجعلوها حتى لا تكتفي بالسلفية ومصدرها، لكن جاءوا بملابس من إيران وأفغانستان. هل نحن بخير الآن؟"
حين عرفت مصر طريقا إلى العالم الحديث مع تولي محمد علي الحكم، واكتشفت تخلفها الكبير، بدأت تبحث عن نفسها، انفتح المجال للصناعة والتجارة والبعثات والرحلات من العالم وإليه. كان لا بد أن تواكب ذلك سياسة جديدة شعارها التسامح بين الأديان والأجناس.
لم يعد ممكنا أن تنفتح مصر على العالم، ويظل مفروضا على القبطي لون زي معينا مثلا لتمييزه. لن أتحدث عن شكل الحكم ولا محاسنه، ولا مساوئه. أتحدث عن عادات جديدة بدأت الدعوة إليها بلا غصب، وبدأت تجد طريقها وعلى رأسها مثلا تعليم البنات.. لم يُجبَر الناس عليها. لقد تم فتح المدارس وتُرِك الأمر للناس، ظهرت الصحف لكن لم يتم فرضها على أحد، وتركت للناس يُنشئونها بأموالهم. ظهر فن المسرح لكن لم يُجبر الناس على الذهاب إليه.
وظهرت السينما وحدث الأمر نفسه. تُركت الروح تختار دروبها برضاها وتتقدم فيها، ظهرت قضايا من نوع من نحن وكيف تكون النهضة؟ هل بالنزوع إلى البحر المتوسط، أم الفرعونية، أم الإسلام، أم الأنجلوسكسونية؟ الذي أثارها ليست الدولة وحكامها، لكن الوضع الذي صارت فيه البلاد، يلجأ إليها كل الناس من كل الدنيا بينما حط عليها الاستعمار. هي أسئلة طبيعية جدا لكن الإجابة عليها لم تكن من الحاكم أبدا، كانت من التطور الطبيعي للروح.
أخذت مصر طريقها نحو الهوية وهو طريق قديم مشت فيه بهضم وامتصاص كل ما يصل إليها من الغزاة، من أفكار وعادات وتقاليد، دون أن تكون دولة أخرى غير مصرية. لكن في يوم ما تدخلت الدولة، وهذا اليوم هو ما ندفع ثمنه حتى الآن على مرتين، الأول حين نادت دولة يوليو/تموز بالعروبة والقومية العربية.. هنا وضعت الدولة مسارا جديدا محكما لا خروج عنه.
فكرة القومية عموما ليست سيئة، هي الفكرة التي كانت وراء نضال دول أوروبا الخاضعة للاحتلال العثماني، وهي الفكرة التي كانت وراء قيام القومية الألمانية في وجه الاحتلال الفرنسي لألمانيا أيام نابليون بونابرت. في مصر كان الأمر مختلفا.
فالفكرة التي وقفت في وجه الاحتلال البريطاني كانت فكرة مصر للمصريين. فكرة الأمة المصرية بما فيها من غرباء ينهضون بها مع المصريين ولا يسلبونها. حين حاول الاستعمار البريطاني دق أسفين بين الأقباط والمسلمين رفع المصريون شعار الهلال مع الصليب، وخرجوا في المظاهرات معا ضد الإنكليز. انتقلت فكرة القومية من العالم إلى بعض الكتابات مثل ساطع الحصري مثلا، وصار للدول العربية جامعة عربية عام 1945، لكن ذلك لم يكن غصبا عن أحد.
كانت للنهوض بعد الحرب العالمية من الدول الاستعمارية، لكن حين حدث الاستقلال انحرفت الفكرة. لم يسأل أحد نفسه عن أجمل سنوات تواجد العرب في مصر من قبل، وكيف كان منهم من قاد النهضة في الثقافة والإعلام وكل تجلياته مثل المسرح والسينما. لم يفكر أحد أن فكرة القومية يمكن أن تأخذ أشكالا اخرى من التعاون، مثل فتح الحدود والتعاون الاقتصادي مثلا، بدلا من محاولة أن يكونوا دولة واحدة، وهي محاولة أي عاقل يقول أنها ستفشل. نسفت الفكرة أي مساحة من الحرية لأن من أشاعها هو الدولة في كل مناهج التعليم والصحف، في الوقت الذي أقرت فيه نظاما شموليا ديكتاتوريا في الحكم لا فرصة فيه للمعارضة، فألغيت الأحزاب وجرى ما جرى من معتقلات ولن نعيده.
ثم جاءت بعد ذلك وبقرار من أعلى أيضا فكرة الإسلامية مع أنور السادات. فتح الباب للإسلاميين. لا اعتراض على إخراجهم من المعتقلات، لكن الاعتراض على تأييدهم في أفكارهم بالدعم المالي وغيره من الدولة، ومن رجالهم في الخارج ودول خليجية وقتها بموافقة الدولة، أصبحت القومية بدورها فكرة سيئة بالقوة، وأصبحت المسيحية كفرا، والآخر عدوا، ودخلت إلى مصر عادات جديدة مع السلفية، كان يمكن أن تحدث في مئات السنين لو تركت للتطور الطبيعي، والأرجح أنها لم تكن ستحدث أبدا، لكنها حدث بالقوة المجسدة في التأثير الإعلامي والتعليمي والثقافي والديني المفتوح لها في المساجد في سنوات قليلة والفقر والإفقار. لم تنجح فكرة القومية في مصر في غلق النوافذ على العالم، لأن من كانوا في السلطة وحولها كانوا من نتاج الفترة السابقة، فترة الليبرالية والتطور الطبيعي، وما زالوا متطلعين إلى أوروبا أو البحر المتوسط، الذي قطعت فيه البلاد شوطا كبيرا.
منذ السادات تغير رجال السلطة ومن حولهم وافتقد الكثيرون هذه الروح العالمية، فصارت مصر في عاداتها القديمة بلد الكفار، وفي عاداتها الجديدة بلد الإسلام، فجعلوها حتى لا تكتفي بالسلفية ومصدرها، لكن جاءوا بملابس من إيران وأفغانستان. هل نحن بخير الآن؟ باختصار صناعة الروح هو سبب ضياع أمتنا وإفسادها.
الروح بنت التطور الطبيعي للشعوب، وليست جبرا حتى لو صار هذا الجبر بالكذب والاحتيال.
روائي مصري