يبقى لمدينة الدار البيضاء رغم صخبها دور كبير في بنائي النفسي وتكوين شخصيتي، أتذكر أول مرة زرتها رفقة مجموعة من الطلبة الجدد، كما لازلت أتذكر عبارة صديقي "الموريو" المدهوش من علو بنيانها وحضارتها قائلا " صابل المغريب كابظ الصحراء".
بعد ان عرفت "كازا" وإستوطنت فيها لسنوات لا يمكن لذاكرة ان تمحو من ذهني ذلك اليوم الذي كنت فيه عائدا من الجامعة في اخر يوم للإمتحان متوجها في الحافلة رقم 900 التي تربط بين المحمدية والدار البيضاء، وانا أحمل في جيبي عشرة دراهم فقط، اي ثمن الحافلتان اللتان سأستقلهما للوصول إلى مكان إقامتي، بعد يوم شاق شارف على الغروب لم أتناول فيه أية وجبة ليوم كامل.
عند ركوبي الحافلة بدأت معركة الأمعاء الفارغة تهزمني وكما يقال "الجوع لا ضمير له"، عندها قررت أن لا ادفع ثمن التذكرة "وندربها بسلتة" على أمل ان لا يأتي المراقبين (الكونطرولور)، فادخر بذلك ثمن التذكرة لشراء "شفنجة وكأس شاي وسجارة من النوع الرديئ".
وانا امارس احلامي المتواضعة توقفت الحافلة في طريق مهجورة وكانت الشمس قد شارفت على الغروب، فصعد جيش من المراقبين طلبوا مني التذكرة.
فشرحت لهم اني طالب كنت إجتاز الإمتحانات واني لا امتلك ثمن التذكرة، لكنهم لم يكترثوا لأمري وامروني بالنزول فورا من الحافلة عقابا لي على سلوكي.
نزلت من الحافلة في منطقة نائية لا أعرف أين سأذهب؟
ومتى سأصل؟
دخلت في حيرة وبدأت الأفكار تزاحمني، وشعرت حينها بالإنكسار والتيه، وماهي إلا لحظات حتى سمعت منبه نفس الحافلة يدعوني سائقها لركوب، كان قد رجع بعد إحتجاج النسوة على سلوك المراقبين. رفضت الصعود حفاظا على كرامتي، فنزلت عدة نساء يتوسلن بعبارة " أركب اوليدي نحنا بحال امك"، فإستجبت لهن لإحساسي بحنان مفقود في مدينة لا تعرف سوى منطق "الدراهم".
وبعد جلوسي في المقعد الأمامي بدأت الأوراق النقدية تتقاطر أمامي من النسوة، فرفضت ذلك وشرحت لهم اني من قوم له كبريائه ولا يأخذ الصدقات، فطلبت منهن إحترام ذلك وشكرتهم على موقفهم النبيل وأنني لن أنسى كرمهم وطيبهم ما حييت. "قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين" صدق الله العظيم.