كانت المقاومة الفلسطينية ولا تزال الشوكة الموجودة داخل حلق الصهاينة والتي أحبطت كل مخططاتهم لبناء ما يسمى بإسرائيل الكبرى التي تمتد من النهر إلى البحر، وهي التي أجبرت العَدو الإسرائيلي على التخلي عن الكثير من المناطق التي احتلها منذ تأسيسه، كان أبرزها انسحابها التكتيكي والذي أجبرت عليه من قطاع غزة سنة 2005م حيث انسحبت إسرائيل من جميع مستوطناتها في غزة، وهو الإنجاز الذي أُعتبر بمثابة ضربة موجعة للجيش الصهيوني الذي يوصف بأنه الجيش الذي لا يقهر في منطقة الشرق الأوسط.
فالمقاومة بمختلف تشكيلاتها العسكرية وتياراتها السّياسية والنضالية، ورغم كل الخلافات الموجودة بينها والانقسامات التي باتت واضحة وجلية بين قياداتها وخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة وهو ما انعكس سلباً على الساحة السّياسية داخل فلسطين وفي مختلف مخيمات وبلدان الشتات، أحدثت فارقاً كبيراً في المعادلات الاستراتيجية في المنطقة، بالرغم من الفارق الكبير من حيث حجم التسليح والتدريب والعتاد والعدّة بين الجيش الإسرائيلي المدعوم غربياً وأمريكياً وبين مختلف فصائل المقاومة التي تعيش حصاراً خانقاً منذ سنوات، وتمتلك أسلحة تعتبر تقليدية وبسيطة مقارنة بأسلحة جيش الاحتلال الصهيوني.
وبالرغم من ذلك استطاعت هذه الفصائل الفلسطينية أن تفرض معادلات للردع الاستراتيجي وباعتراف قادة صهاينة كبار، وهذا ما أكد عليه رئيس منتدى العلاقات الدولية للحوار والسياسات "شرحبيل الغريب"، عندما قال: بأن المقاومة الفلسطينية باتت هي من تفرض معادلات الردع الاستراتيجي على الصهاينة، ومن تحدد مسارات المعركة مع الاحتلال الصهيوني، حيث برأيه قد أظهرت المقاومة الفلسطينية حالة من الهدوء والحنكة والصرامة في التعامل مع الجرائم الإسرائيلية، واستطاعت تمرير رسائل للاحتلال عنوانها "لن نسمح لكم بالاستفراد بالقدس" ونجحت في ذلك، حسبما ذكر موقع مرآة الجزيرة بتاريخ 20ماي/مايو 2021م في مقال حمل عنوان" انتفاضة فلسطين في غزة: رئيس منتدى العلاقات الدولية للحوار والسياسات، شرحبيل الغريب ل"مرآة الجزيرة": المقاومة الفلسطينية تفرض معادلة الردع وتحدد مسار المعركة مع الاحتلال الصهيوني".
وبالتالي فالمقاومة الفلسطينية التي صمدت رغم كل الدسائس والمؤامرات التي حيكت ضدّها، والضغوط العربية والدولية التي مورست عليها للاعتراف بالكيان المتحل أو الدخول في مساومات سياسية معه وجرها إلى نادي التطبيع كما فعلت قبلاً بالسلطة الوطنية الفلسطينية وعدة دول عربية أخرى. قد أبهرت العالم ونالت تعاطفاً وإشادة دولية غير مسبوقة في عميلة سيف القدس الأخيرة، التي كانت بمثابة رسالة بعثت بها حركة حماس وكل فصائل المقاومة المختلفة للمجتمع الدولي مفادها أننا قادرون على الوصول لأبعد نقطة في فلسطين المحتلة، وبأننا صامدون رغم سياسة الحصار والتجويع المفروضة علينا، وبتواطئ دولي من مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وحتى رئيس الحكومة الحالية اليميني المتطرف نفتالي بينت، كان يعتقد بأنه يستطيع فرض شروطه وإملاءاته على أسود المقاومة في غزة، إذ صرح أكثر من مرة بأن الجيش الصهيوني سيعيد احتلال قطاع غزة مرة ثانية بعد أن يقوم باجتياحها برياً حسب تصريحات أدلى بها ل" القناة 12" الإسرائيلية حيث قال: إن حكومته لن تجمّد الاستيطان في الضفة الغربية، كما أنها ستشنّ عملية عسكرية على غزة ولبنان، إن اقتضت الحاجة، كما ذكر موقع SPUTNiK NEWS بتاريخ 5جوان/حزيران 2021م في مقال بعنوان "لماذا هدّد بينت بشنّ حرب على غزة ولبنان، وما تأثير تصريحاته على الحكومة الجديدة".
ولكن يبدو أن الموقف الثابت للمقاومة أثبت دوماً عدم جدية التهديدات الإسرائيلية، لأن بينت يعرف بأنّ قطاع غزة سيكون بمثابة أرض الجحيم بالنسبة لجيشه وجنوده، ولن تكون إعادة احتلاله بالأمر السهل، في ظلّ وجود تشكيلات عسكرية قتالية للمقاومة ذات عقيدة صلبة، وتلقى أفرادها تدريبات عالية سواء داخل القطاع أو في معسكرات حزب الله في جنوب لبنان، أو في سوريا وإيران.
وهذا ما دفع بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى خفض سقف توقعاتها، واضطرت تحت ضغط الرأي العام في إسرائيل إلى الجلوس على طاولة المفاوضات ولو بشكل سريّ مع حركة حماس للتفاوض من أجل إطلاق سراح جنودها الأربعة المختطفين ورفاة جنود آخرين كانوا قد وقعوا بيد المقاومة في غزة في صولاتها وجولاتها الكثيرة مع الصهاينة، والذي اضطروا للقبول بكل شروطها من أجل إنجاز صفقة تبادل الأسرى التي بالتأكيد ستشمل هذه المرة كما قال: أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام إضافة إلى أسرى النفق الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم، الأسرى المحكومين بالمؤبد وبأحكام عالية، ومن مختلف الفصائل الفلسطينية ودون تمييز بين معتقلي الضفة أو القطاع ،أو أسرى الخط الأخضر داخل الكيان المحتل.
فصفقة تبادل الأسرى والتي تدخّلت مصر لتكون الوسيط فيها بين الطرفين، أبدت فيها حركة حماس مثلما قال: القيادي زاهر جبارين عضو المكتب السّياسي لحركة حماس ومسؤول ملف الأسرى في تصريح لوكالة الأناضول، استعدادها لإنهاء صفقة التبادل بأسرع وقت ممكن باعتبارها ملفاً إنسانياً، مثلما ذكر موقع وكالة الأناضول الرسمي بتاريخ 28 سبتمبر/أيلول 2021م، في مقال بعنوان "صفقة تبادل بين حماس وإسرائيل... حراك يراوح مكانه (تقرير)".
فصفقة تبادل الأسرى الحالية ربما ستكون الأكبر من نوعها بين حماس إسرائيل بعد صفقة تبادل الأسرى بينهما والتي كانت بوساطة مصرية كذلك والتي جرت بتاريخ 11أكتوبر/تشرين الأول 2011م، و أطلقت عليها حركة حماس اسم " وفاء الأحرار"، حيث أفرجت إسرائيل بموجبها عن حوالي 1027 أسيراً وأسيرة في مقابل إطلاق سراح الجندي في سلاح المدفعية جلعاد شالي، حيث قال: في هذا الصدد عبد الناصر فروانة عضو لجنة إدارة هيئة شؤون الأسرى في قطاع غزة بأن هناك آلاف السجناء ينتظرون بأمل لإنجاز صفقة التبادل بين حماس وإسرائيل، حسبما ذكر موقع SPUTNIK NEWS بتاريخ 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021م في مقال بعنوان "حماس تعلن عن صفقة قريبة مع إسرائيل وتكشف الثمن".
الجندي المحرر جلعاد شاليط الذي أكد من خلال اعترافاته بعد إطلاق سراحه للإعلام العبري بأن حركة المقاومة حماس تعاملت معه بإنسانية كبيرة وذلك طوال الفترة التي قضاها في الأسر، ولم تقم بتعذيبه جسدياً أو نفسياً أو تركه بدون رعاية صحية، كما تفعل إسرائيل بالأسرى الفلسطينيين في سجونها، حيث أن هناك أكثر من 600 أسير يعانون صحياً في سجون الاحتلال، وتمتنع إدارة السجون الصهيونية عن تقديمالرعاية الطبية اللازمة لهم وتتركهم ليموتوا ببطئ.
ففي هذه الجولة الجديدة من الصراع مع العدو الصهيوني أثبتت قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، أنها تجيد لغة الحرب الميدانية واستراتيجياتها وتكتيكاتها العسكرية المختلفة، كما أنها بارعة أيضاً في المفاوضات السّياسية، وتمتلك أدوات وميكانيزمات متنوعة للتأثير على العدو وجعله يرضخ لمطالبها بتحرير كل الأسرى الذي تريدهم، وبالتالي يتكشف كل يوم مدى هشاشة وضعف بنية هذا الكيان المحتل الذي صوّروه لنا وعلى مدار سنوات بأنه لا يقهر، وهو في الحقيقة ليس سوى نمر من ورق.
عميرة أيسر