يبدو أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لا يريد الاعتراف بأن بلاده قد ارتكبت جرائم كبرى في الجزائر، طوال مدة احتلاله لها، والتي راح ضحيتها حوالي 10مليون إنسان، ففرنسا الرسمية لا زالت تعتبر نفسها الدولة التي جلبت معها التمدن والعصرنة عند احتلالها للجزائر، التي حسب زعم ماكرون الذي لا يختلف عن شارل ديغول في نظرته للشعب الجزائري، واحتقاره للموروث الثقافي والتاريخي والحضاري والديني للدولة الجزائرية، لم تكن موجودة قبل استقلالها عن فرنسا بحدودها الحالية، والتي يرفض حكام باريس ومسؤولوها الاعتراف بماضيها الممتد في عمق التاريخ الإنساني.
وهناك عدة شواهد تاريخية وأثرية تؤكد ذلك، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، الأهرامات التي تشبه أهرامات الجيزة، ولكن لها قواعد مستطيلة أو مربعة الشكل، والتي تشير الكثير من الأبحاث والدراسات بأنها أقدم من تلك الموجودة في مصر أو السودان أو أوكرانيا أو البيرو، والتي يتجاوز عددها 100 هرم مختلف، وتبدو في الظاهر بأنها أثار جنائزية لملوك عظماء، كتلك التي تقع على بعد حوالي 30كيلو متر من مدينة تيارت، وتلك الأهرامات موزعة بين مختلف المناطق الجزائرية، من تلمسان غرباً لباتنة شرقاً، ومن تيبازة شمالاً لتمنراست جنوباً. وهي التي حيرت علماء الآثار والمختصين. كما ذكر موقع فرانس 24، بتاريخ 14جانفي/يناير 2019م، في مقال بعنوان( أهرامات الجزائر لغز حير العلماء).
وهذا ليس سوى غيض من فيض من تاريخ الجزائر العريق والمنسي، والذي يحاول رؤساء فرنسا تجاهله دوماً، متناسين بأن تاريخهم مزور وبأن فرنسا لم يكن لها وجود قبل الغزو الروماني لها ، فهاته الدولة كانت عبارة عن مجموعة من القبائل المتخلفة والبدائية، والتي تدعي الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، كان لها تاريخ دموي إجرامي حافل في الجزائر، وهو التاريخ الذي لا يمكن أن تسقط جرائمه أو تنقضي بالتقادم، لأن ما ارتكبته فرنسا الاستعمارية ضدّ الشعب الجزائري يرقى لجرائم ضدّ الانسانية فضلاً على تصنيفهكجرائم حرب.
وذلك طبقاً لنص اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية المعتمدةبتاريخ نوفمبر 1968م، ودخلت حيز التنفيذ في نوفمبر 1970م، وبالتالي فعلى فرنسا تقديم كل المجرمين الذين أشرفوا أو شاركوا في ارتكاب تلك الجرائم الموثقة تاريخياً للمحاكمة، وهناك عدة كتب تناولت الحديث عن تلك الجرائم ومن أبرزها كتاب الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي جول بول سارتر، واسمه (عارنا في الجزائر) والذي اعترف فيه بشعوره بالخزي والعار من حجم الجرائم الوحشية، التي ارتكبتها الدولة التي تدعي الدفاع عن قيم الحرية في الجزائر، وهو الكتاب الذي تعرض بسببه للمحاكمة والاعتقال، و بالرغم من كل ما تعرض له سارتر بسبب تعاطفه من الثورة الجزائرية، إلا أنه كان من الشخصيات التي تبنت البيان 121، الداعم للثورة الجزائرية، وكان من أوائل النخب الفرنسية التي دعت للتوقيع على البيان، بالإضافة لأسماء لامعة وقتها في فرنسا أنذاك على غرار موريس بلانشوا وميشال نيتور وغيرهم. كما ذكر موقع نفحة، بتاريخ 26أكتوبر/تشرين الأول 2015م، في مقال بعنوان ( جول بول ساتر: عارنا في الجزائر).
ويحق للدولة الجزائرية بالتالي العمل على ملاحقة هؤلاء المجرمين الفرنسيين الذين ارتكبوا جرائمفوق أراضيهاوضد شعبها قضائياً، بل حتى اختطافهم ومحاكمتهم في الجزائر أن اقتضى الأمر ذلك، وفقاً لمجال الاختصاص العالمي، وهو المبدأ التي استعمله الكيان الصهيوني لتبرير خطفه للنازي أدولف أيخمان من الأرجنتين سنة 1960م، و الذي اعتبرته السلطات الصهيونية من الضباط الكبار في جيش هتلر، الذين هندسوا مجازر الهولوكوست المزعومة، إبان فترة الحرب العالمية الثانية، وخضع للمحاكمة في تل أبيب، أين نفذ فيه حكم الإعدام شنقاً في سجن الرملة في منتصف ليلة 31ماي/أيار عام 1962م، وتم إحراق جثته ورمي رمادها في البحر الأبيض المتوسط. كما ذكر موقع BBC News، بتاريخ 23ماي/أيار 2019م، بعنوان ( كيف نجحت إسرائيل في خطف ايخمان من الأرجنتين وأعدامه؟).
وحسب نص كل الاتفاقيات الدولية الخاصة جرائم الحروب، ومنها اتفاقية لاهاي الدولية لسنة 1907م، والقوانين المترتبة عن محاكمة نورمبورغ ، وطيقاً لنصوص اتفاقيات جنيف الأربعة الصادرة سنة 1949م، والمتعلقة بضحايا الحرب وفي موادها 49.50.129.146.والتي جاء فيها بأنه "يتعهد الأطراف السامون المتعاقدون بسن أي تشريع يلزم لفرض عقوبات فعالة على الأشخاص الذين يرتكبون جنايات خطيرة لهذه الاتفاقية، أو يأمرون بها" فإنه يحق للسلطات الجزائرية فرض عقوبات على المتورطين في ارتكاب جرائم حرب أثناء الاحتلال الفرنسي، والمطالبة بتجميد أرصدتهم وحساباتهم البنكية خارج فرنسا وداخلها، و اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، ومطالبة الإنتربول الدولي بإصدار مذكرات توقيف بحقهم، وجلبهم للجزائر لمحاكمتهم وفق القانون الجزائري الجنائي.
ومن بين أهم المبادئ القانونية التي تحكم جرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانية، التي يجب أن تلجأ إليها السلطات الجزائرية في القريب العاجل، مبدأ عدم قابلية جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية للعفو، طبقاً لنص المواد 51.52.131.148 من الاتفاقيات السابقة، إذ أنه لا يسمح لأحد الأطراف السامين أن يخلي نفسه، أو يخلي أخر من الأطراف السامين المتعاقدين من المسؤولية الملقاة عليه، أو على الطرف الآخر بالنسبة لجرائم الحرب. كما جاء في دراسة نشرت على موقع أرضية الجريدة العلمية الجزائرية ASJP تحت عنوان (جرائم الاستعمار الفرنسي تجاهالجزائر خلال فترة الاحتلال )، ص 1039_1040
بالإضافة إلى أنه على الجزائر مطالبة فرنسا بدفع تعويضات مالية بإعادة بعض لبلدانها الأصليةفي
فالإجرام الفرنسي طال حتى أولئك الجزائريين الذين يقيمون فوق أراضيها، والذين يحمل الكثير منهم الجنسية الفرنسية، والشواهد التاريخية على ذلك متواترة، كقيامها بإلقاءأكثر من 800 جزائري في المياه القذرة في نهر السين، اعتبروا في عداد المفقودين، وذلك إبان مشاركتهم في مظاهرات 17أكتوبر/تشرين الأول 1961م، حيث شارك فيها 60ألف متظاهر، وهي المظاهرات التي تعرضت لقمع وحشي من طرف الشرطة الفرنسية بقيادة السفاح موريس بابون، وراح ضحيتها 200شهيد، وأزيد من7000جريح، بالإضافة لألاف المعتقلين.
ومن ذلك لا تزال فرنسا تتعنت وترفض حتى مجرد التفكير في الاعتذار عن ماضيها الاستعماري في الدول الأفريقية التي احتلتها ومنها طبعاً الجزائر، والتي لطالما تباهى ساسة فرنسا ببطولات جيشهم فيها، ولأن فرنسا تحتقر شعوبها المستعمرة، رفض رئيسها ماكرون الاعتذار علناً عن ماضيها الاستعماري في القمة الفرنسية الأفريقية التي تعتبر الأولى من نوعها، والتي شارك فيها مئات الشباب الأفارقة، حيث قام ماكرون في تلك القمة بإعلان عن إنشاء "صندوق الابتكار من أجل الديمقراطية في أفريقيا ". كما ذكر جريدة الوطن، بتاريخ 9أكتوبر/تشرين الأول 2021م، في مقال بعنوان(اول قمة فرنسية إفريقية: ماكرون يطلق صندوق الابتكار، ويرفض الاعتذار).
والملاحظ أن فرنسا كانت ولا تزال تحمي كل من تورط في ارتكاب مختلف أنواع المجازر بحق الجزائريين، حتى تلك التي ارتكبت فوق أراضيها، فماكرون اعترف بنفسه في أكتوبر الماضي، بمسؤولية موريس بابون ومن معه على جرائم سنة 1961م التي أشرنا إليها أنفاً، ولكنه لم يطالب بمحاكمة المتسببين فيها أو تقديم تعويضات لعائلات الضحايا الجزائريين الذين سقطوا وقتها، والذين يحمل الكثير منهم الجنسية الفرنسية، لأنه ككل من سبقوه يعتبر هؤلاء الملامين في تنظيم تلك المظاهرات فوق الأراضي الفرنسية، ويرى بأنه من حق قوات الشرطة قمعهم حفاظاً على النظام و الأمن العام.
فهذه الدولة القاتلة للشعوب والمجرمة، والتي عاثت فساداً وقتلاً وتنكيلاً بالجزائريين، وكانت تقتل الأسرى منهم بطرق بشعة لم يسبقها أحد إليها حتى تلك القبائل البدائية المتوحشة، والتي تأكل لحوم البشر في أدغال الأمازون، لا تزال غير مبالية بكل الدعوات التي تخرج بين الفينة والأخرى، والتي تطالبها بالاعتذار عن جرائمها وماضيها الاستعماري الأسود في الجزائر، مادام أن الدولة الجزائرية لم تقم بتفعيل أدواتها السّياسية والاقتصادية والدبلوماسية للضغط على باريس من أجل دفعها للاعتراف بتلك الجرائم، و التي باتت تعيي جيداً بأن الجزائر يجب أن تعامل كشريك استراتيجي مهم لها في منطقة البحر الأبيض المتوسط مستقبلاً ، لا يمكن لها الاستغناء عنه، وليس مجرد بلد تابع لها، فالمعطيات الجيواستراتيجية في المنطقة لم تعد كما كانت في العهد الاستعماري، فهناك العديد من الدول التي تحاول السيطرة على مناطق نفوذها التقليدي،وخاصة في الجزائر.
عميرة أيسر