بقلم : عبدالله حافيظي السباعي الادريسي *
عندما تستقل سيارتك من الرباط صوب مدينة الداخلة بالصحراء المغربية وتقطع الطريق السيار الى ان تصل في ظرف أربع ساعات بالتمام والكمال الى مدينة أكادير ، تحس في قرارة نفسك انك في بلد متقدم خطط له ملك باني هو المغفور له الملك الحسن الثاني ، وأتم المشاريع وأشرف على تنفيذها وارث سره جلالة الملك محمد السادس نصره الله ، وإن كل الحكومات المتعاقبة مند فجر الاستقلال قامت بواجبها إيجابا أو سلبا في حدود ما سمح لها به ، وأن حكومة الاسلاميين المعتدلين مهما حاولت فلن تحقق إلا ما سمح لها به حفاظا على قانون اللعبة الذي لن يسمح لأي كان تجاوز خطوطه الحمراء ...
من مدينة اكادير الجميلة وبعد اجتياز البساتين الغناء لمنطقة شتوكة ايت بها بسهل سوس العالمة ، وبعد تجاوز منطقة اولاد جرار ومرتفعات تسدرمت بقبيلة الاخصاص ومنعرجات أكني إمغارن على مشارف مدينة بيزكارن ، تم مدينة كلميم باب الصحراء وقطع واد أم العشار في إتجاه مدينة طانطان لتستقبلك امواج المحيط الاطلسي العاتية هذه المدينة الهادرة هدير امواج بحرها التي انطلق منها البلاء المبرم تجاه كل أنحاء المغرب ، فمن شوارع هذه المدينة التي عرفت بموسمها السنوي وبسوقها الحر حيث كان يباع فيه كل شيئ حتى كرامة المغرب وبأبخس ثمن ... منها انطلقت مظاهرة الطلبة الجامعيين الصحراويين برئاسة المرحوم الوالي التهالي الركيبي الادريسي زعيم ومؤسس جبهة البوليساريو ، وفي مخفر شرطتها ترأس الجنرال اوفقير مراسيم تعذيب الشباب الصحراوي ليقرروا من داخل مخفر الشرطة تأسيس جبهة البوليساريو وينطلقوا من طانطان صوب الزويرات بالقطر الموريتاني الشقيق ، تم الى الجنوب الجزائري ليحتضنهم الجنرال بودين وزبانيته ويوفروا لهم أرض تيندوف بفيافي الحمادة وعوينت بلكرع ، وكل المتطلبات من أجل استقبال اللاجئين المهجرين قسرا من الصحراء عقب المسيرة الخضراء المظفرة ، وليتم مدهم بالسلاح والعتاد والمال الليبي لتنطلق ملحمة الغدر والذل والهوان والقتال بين الاخوة والأهل والأحباب ، هذا التناحر الذي دام زهاء 16 سنة ولم ينتهي إلا حوالي سنة 1991 عندما أشرفت الامم المتحدة على ايقاف النار بين الطرفين المتحاربين الجيش المغربي والجيش الصحراوي المدعوم من طرف الجزائر وليبيا آنداك والمعسكر الشيوعي ككل ...
ومن طانطان عبر بلدية الوطية وأنت تقطع مئات الكلومترات محروسا من أمواج المحيط الاطلسي بمده وجزره لتصل مدينة طرفاية المعروفة بهيجان بحرها الذي ابتلع كل شئ بما في ذلك بواخر الصيد والنقل البحري ولا زال يقول هل من مزيد ... ومن بحر طرفاية الى بحر العيون الذي اتت امواجه العاتية على الاخضر واليابس فكانت الانتفاضات المتتالية التي ختمتها معضلة اكديم ازيك التي لا زالت تداعياتها تفرض نفسها من محاكمات الى احتقان اجتماعي بكل انحاء الصحراء بما في ذلك كلميم وسيدي افني واسا الزاك ، أما المناطق الموروثة عن الاستعمار الاسباني الغاشم فإنها تعيش حالة طوارئ بكل ما في الكلمة من معنى ... ولن تعرف استقرارا لأن أهل هذه الارض جبلوا على اللعب على الحبلين ، استغلوا اسبانيا التي منحتهم الامن والأمان إلى ان اصبحوا يفضلونها عن اهلهم وذويهم ... طردوا موريتانيا من منطقة وادي الذهب وحاولوا دخولها لولا يقضة الجيش المغربي الباسل ... وها هم اليوم يحاربون المغرب على كل الجبهات ، ساموا جيشه سوء العذاب ، أرغموه على الجلوس معهم صاغرا على طاولة المفاوضات المباشرة ، والله اعلم الى أين سيصل بهم المركب مستقبلا ... لأنهم يناورون ويعرفون كيف يناورون ، عكس المغرب الذي يتعامل مع الملف بمنطق ولك الساعة التي أنت فيها ...
ومن العيون على مشارف وادي الساقية الحمراء متجها صوب مدينة بوجدور وأنت محروسا من جهة اليمين بخضرة مياه المحيط الاطلسي الى ان تصل الى خليج الداخلة هذه المدينة الهادئة التي تستقبلك بصدر رحب رحابة قلب ساكنتها ، وليستقبلك بحرها الهادئ هدوء أهلها ، بحر لم أر له مثيلا على ظهر البسيطة ، فلم ترى عيني وقد جبت كل انحاء المعمور بحرا امواجه هادئة يقبل الارض بلطف وحنو وامتنان الا بحر االداخلة الذي يحرسها من كل النواحي ... كما ان المدينة تعتبر من أنظف مدن المملكة المغربية إن لم اقل شمال افريقيا ، وقد نجح الوالي الحالي الاستاذ حميد شبار بجعلها مدينة خالية من منازل القزدير ، كما تم تنظيف مناطقها الصناعية ومنطقة الميناء الجديد من النفايات التي كانت متراكمة فيه طيلة العقود الماضية ، بالإضافة الى ان مدينة الداخلة لها مستقبل واعد في الميدان السياحي وخاصة هوات ركوب الامواج الهادئة ، كما ان التفكير مستقبلا في جعلها منطقة حرة من شانه ان يعطيها أهمية بالغة على الصعيد العالمي لموقعها الاستراتيجي ، إلا أن المغرب قي حالة تقاعسه وتردده في جعل منطقة الداخلة منطقة حرة حاليا قد تسبقه الى ذلك السلطات الموريتانية التي تعمل جادة لجعل منطقة نواديبو منطقة حرة بامتياز ...
مدينة الداخلة جئناها لحضور النسخة الرابعة من مهرجان السينما العربية ، قضينا بها أربعة أيام كلها فرح ومرح وتتبع لأفلام سينمائية هادفة وندوات ثقافية مهمة ... حضرنا جلسة الافتتاح التي ترأسها والي منطقة الداخلة وادي الذهب الكويرة وحضور متميز من الفنانين والسينمائيين المغاربة والأجانب ، كان من المنتظر ان يترأس حفل الافتتاح وزير الاتصال والناطق الرسمي للحكومة الاسلامي مصطفى الخلفي ، ووزير الثقافة الشيوعي الصبيحي ، وهما ضدان اجتمع في المغرب وإذا كنت في المغرب فلا تستغرب ... خلفا وعدهما ولم يحضرا خوفا من منطقة لا زلت تداعيات محاكمة مجرمي اكديم ازيك ترخي بضلالها السلبية عليها ، او خوفا من افلونزيا الطيور التي يقال أنها منتشرة في الداخلة والتي لم نر لها اثرا ، فقد تكون دعايات حملة مغرضة من أجل إفشال مهرجان سينما بالداخلة ... المشرفون على المهرجان لم يفكروا في افتتاح الحفل الرسمي للمهرجان بآيات بينات من الذكر الحكيم ، ولا بالنشيد الوطني الذين حاولوا تعويضة بأغنية ناس الغوان المشهورة : العيون عينيا والساقية الحمراء لي والواد وادي يا سيدي .... كان حضور ممثلين مرموقين وعلى رأسهم المثل المشهور يحيى الفخراني هو أشد ما اثار انتباه الجميع ، كما كان وفد لاس باماس الاسباني هو الحدث التي اهتم به الجميع سعيا وراء التأثير على الرأي العام في جزر الخالدات من أجل تليين موقفه العدائي ضد وحدة المغرب ، فهل تنجح السينما في ما لم تنجح فيه السياسة ؟
السيد الوالي عامل الجميع بلطف وتواضع ونكران الذات ، ونظم على شرف المشاركين في المهرجان حفل عشاء فاخر في منطقة استراتيجية جميلة بضواحي الداخلة ، كان الحقل سيزداد جمالا ورونقا وبهاء لو نظم نهارا جهارا ليستمتع الجميع بزرقة البحر وجمل المنظر، لان الليل الدامس ، والبرد القارس ، أفسد على الحاضرين فرحته الاستمتاع بالمنظر الجميل والمأكل الذيذ ...
كان فلم المخرجة المغربية فريدة بليزيد : الحدود ، هو أول فلم تم عرضه على شاشة مسرح قاعة المؤتمرات التي تم تدشينها تدشينا رسميا في نفس اليوم والتي تم بناؤها بأزيد من 5 مليارات سنتيم وهي قاعة جميلة رغم أنها صغيرة قد لا تستوعب كل الانشطة بالإضافة الى أنها بنيت بعيدا عن وسط المدينة حيث لا يمكن ان يصل اليها إلا المتوفر على وسيلة نقل ، وقد يكون هذا الاجراء مقصودا من طرف المسؤولين الذين أصبح الهاجس الامني يطاردهم خاصة بعد حادثة مهرجان الداخلة الاخير التي نشبت خلاله حربا ضروسا بين السكان الاصليين الذين ذهبوا ضحية رعونة ساكنة مخيم بضواحي المدينة ، هذا المخيم الذي ارادته السلطات المحلية خزانا انتخابيا للتأثير على الاغلبية داخل المجالس المنتخبة فإذا به يتحول الى جمرة تقبض عليها السلطات المحلية بكل المدن الصحراوية وهي لا تعرف ماذا تفعل بها هل تصبر عليها ام ترميها على هون ...وها هم المغاربة يحصدون نتائج سياسة صالح زمراك وحسن أوشن وعلال السعداوي بياديق الوزير المخلوع إدريس البرصي الذين كانوا يختطون لكل شيء من أجل بقائهم في السلطة ، إلا أن السحر انقلب على الساحر ... ذهب الله بنورهم وتركهم في الظلمات الى يوم البعث ... غادروا بعد اعفائهم من مهامهم غير مأسوف عليهم ، إلا انهم تركوا بصمات السوء والغدر والذل والهوان الذي لازلت المنطقة تعاني منه وستعاني لعقود متتالية ...
خرج الجميع بعد انطلاق فلم الحدود بما في ذلك مخرجة الفلم فريدة بليزيد ولم يتابع الشريط ازيد من خمسة مشاهدين بالتمام والكمال ... الفلم كان معدا للدفاع عن الحق المغربي في استرجاع صحرائه ، بطل الفلم كان يبحث عن الايجابيات التي حققتها الدولة المغربية في الصحراء بينما البطلة كانت لا تبحث إلا عن السلبيات وكأن مخرجة الفلم تريد ان تقنع الجميع ان المغرب حقق الكثير من المشاريع وأسعد ساكنة الصحراء التي لازالت تشكو من سلبيات بادية للعيان خاصة مشكل بطالة الشباب وملف حقوق الانسان ... وكأن الفلم يريد ان يقول بصفة غير مباشرة ان المغرب نجح في بناء الارض لكته فشل فشلا دريعا في بناء إنسان صحراوي مخلص لدينه وملكه ووطنه ...
كان بإمكان المنظمين ان ينتبهوا الى ان المهرجان منظم لساكنة المنطقة فبذل ان يتحملوا مصاريف اقامة مئات المشاركين من داخل المملكة وخارجها ، ان يقوموا باستدعاء كل المثقفين ورجال الاعمال بالمدينة ، وإحضارهم في لجنة التحكيم كما تم احضارهم في مختلف لجان التنظيم ، وأن ينظموا مسابقات ثقافية لها علاقة بالسينما بين المتفوقين من أبناء المنطقة في جل المستويات الدراسية ، ليكون المهرجان مهرجان الداخلة بامتياز ...
في اليوم التالي حضرنا ندوة السينما وحقوق الانسان التي احتضنتها قاعة الاجتماعات بمقر الولاية ولذلك دلالاته الخاصة ... كان الجميع يتهرب من مربط الفرس ويناقش حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الخادمات ... بينما المعني هو حقوق الانسان في الصحراء المغربية ، وفي تدخلي اثناء المناقشة ، شكرت المنظمين للمهرجان وبما أن المحاضرين هم عرب من مختلف الدول العربية وغياب ابناء البلد ، مع حضور متميز للأجانب وخاصة الصحفيين المرافقين لوفد لاس بالماس ، قلت لهم بأن كل الآمال معقودة على الإعلام العربي من أجل تلميع صورة المغرب في مجال حقوق الانسان وخاصة عند الرأي العام الاوربي الذي أثرت عليه دعاية الجزائر وربيبتها البوليساريو ... وأن حل مشكلة الصحراء لن يكون إلا بمبادرة عربية عربية من أجل اقناع الجزائر لدفع الصحراويين الانفصاليين لقبول حل الحكم الذاتي تحث السيادة المغربية وهو حل لا غالب ولا مغلوب ولا حل يلوح في الافق إلا هذا الحل ، أما تقرير المصير فإنه سيف ذو حدين ... كما قلت لهم أن العرب يروا في المغرب عمقهم الاستراتيجي والثقافي والصوفي ، بينا الاوربيين لا يروا في المغرب إلا خزانا للسمك والفوسفاط والموقع الاستراتيجي ، وهم يحاولون الاستحواذ على هذه الثروات باستغلال المغرب استغلالا بشعا وخلق له كل المشاكل داخل المغرب وخارجه ،وبدون بسط سيطرة الغرب على خيرات الصحراء ، وضمان منفذ آمن للجزائر على المحيط الاطلسي ، فان مشكل الصحراء المغربية لن يجد له حلا في الافق القريب ، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ...
في اليوم التالي تتبعنا بكل إمعان وشوق الفلم السوري : مريم وهو فلم يؤرخ لمأساة لا زالت فصولها مستمرة والله وحده يعلم كيف ومتى ستنتهي ... وذلك هو ديدن الغرب ، فكل الدول التي شهدت ما سمي بالربيع العربي تعيش الان خريفا عربيا غاضبا ، فلا تونسي البوعزيزي عرفت استقرارا ... ولا ليبيا تمكنن من مسح جراحها الغائرة ... ولا تونس تركوها تنعم بالاستقرار السياسي لتقود قاطرة الامة العربية ... ولا اليمن تمكن من الوصول الى بر الامان ...اما الدول الخليجية التي صبت الزيت على النار وطعنت اخوانها من الخلف ، فإنها لن تسلم من ربيعها وخريفها وشتائها وصيفها ...
يوم الثلاثاء 26 فبرائر 2013 على الساعة الثامنة مساء ترأس السيد الوالي حفل إختتام المهرجان ، أعطت لجنة التحكيم نتائجها ووزعت جوازها على كل المشاركين جبرا لخواطرهم ، وسدل الستار على نهاية مهرجان ناجح رغم وجود بعض الهفوات التي يمكن تجاوزها مستقبلا وخاصة تفادي عدم تتبع فقرات المهرجان لكي يكون الحضور مهما وهذا لا يمكن التغلب عليه إلا في اختيار المدعوين وإقناعهم بان حضورهم فعاليات المهرجان اهم من اهتمامهم بالنزهة والراحة والتخمام على حساب ميزانية مهرجان واعد ... كما يجب الاهتمام بساكنة المنطقة وإقناع أبناء المنطقة بحضور فعاليات المهرجان فقد كان بالإمكان دعوة جميع الطلبة الشباب المتفوقين في كل المستويات الدراسية بالإقليم ... كما ان الاخلاق والابتعاد عن الشبهات (من ابتلي منكم فليستتر) ، كل ذلك كان بالإمكان ان يزيد في نجاح المهرجان وتجنبه هفوات كان بالإمكان تفاديها بشئ من الحكمة والتبصر والقول الحسن ...
*باحث متخصص في الشؤون الصحراوية والموريتانية